
“ما يثير القلق ليس القمع، بل استعداد الإنسان الطوعي للعيش في سجن من صنع يديه.”
بهذا المعنى العميق تفتتح دوريس ليسينغ، الحائزة على نوبل للآداب، تأملاتها الجريئة في كتابها “Prisons We Choose to Live Inside”. هذا الكتاب، الذي لا يتجاوز الثمانين صفحة، يبدو كمنشور تحريضي للعقل الحر، ومرافعة صادقة ضد الاستلاب الفكري والطاعة العمياء.
وقد وردني عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذه الخلاصة للكتاب آثرت ان اتشاركه مع قرائي فقد ألقت
ليسينغ سلسلة من المحاضرات في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حاولت أن تفكك الآليات الخفية التي تجعل الإنسان، في مجتمع ديمقراطي ظاهريًا، يقبل بالخضوع ويمتثل دون إكراه.
وليست هذه المحاضرات فلسفية تقليدية، بل صرخات ناصحة في وجه الخدر الجمعي، بلغة تجريبية لا تخلو من مرارة.
وتحذر ليسينغ من القوة المغناطيسية التي تمارسها الجماعة على الفرد. “الناس يتخلّون عن استقلالهم الفكري، لا لأنهم ضعفاء، بل لأنهم يبحثون عن شعور بالأمان داخل الجماعة، أيًا كانت توجهاتها”. هذا ما تسميه بـ”الاستقالة الطوعية من التفكير”. ينخرط الفرد في حزب، طائفة، أو حركة، ليس عن اقتناع دائمًا، بل هربًا من عزلة الفكر الحر.
وتضرب ليسينغ أمثلة حية من السياسة والثقافة، حيث يضحّي الناس بعقولهم على مذبح الانتماء، ويستسلمون لما تقرره الأكثرية، ولو كان مخالفًا للواقع أو الأخلاق.
وفي فصل مثير، بعنوان الإيحاء الاجتماعي وغسيل الدماغ الطوعي تذهب ليسينغ إلى أن “غسيل الدماغ” ليس فقط من أدوات الأنظمة الشمولية، بل قد يحدث في المجتمعات الديمقراطية عبر وسائل الإعلام والتعليم الجمعي، بل ومن داخل الأسرة.
“المجتمع لا يحتاج إلى أن يُخيفك ليجبرك، بل يكفي أن يقنعك بأنك وحدك إن فكّرت بطريقة مختلفة.”
هكذا يتحوّل الإنسان، كما تصفه، إلى “كائن قابل للبرمجة”، يردد ما يقوله الآخرون، ويظن أنه يفكر.
وتقول ليسينغ بوضوح أن “الخوف من العزلة، لا السلطة، هو أقوى دوافع الامتثال.”
حيث يخشى الإنسان أن يُنظر إليه كغريب، أو متمرد، أو مشكك. وهنا تغدو العزلة عقوبة لا تُحتمل، فيرضى بالدور المرسوم له، حتى لو كان يعلم في قرارة نفسه أنه دور زائف.
وتُذكّرنا ليسينغ بتجارب نفسية شهيرة، منها تجارب آش وميلغرام، حيث يثبت العلم أن الناس يرضخون لضغط المجموعة حتى في أبسط الأحكام الحسية أو الأخلاقية، فقط كي لا يُعَدّوا شاذين.
وترفض ليسينغ في فصل مستقل بعنوان نقد الإيديولوجيات المتطرفة “السجن باسم المطلق” كل شكل من أشكال الانغلاق الإيديولوجي، سواء جاء من اليمين أو اليسار، من الدين أو العلمانية.
وتقول: “التعصب هو أن تعتقد أن معتقدك وحده يرى الحقيقة، والباقي ظلام”.
وترى أن الإيديولوجيات حين تتحوّل إلى قوالب مغلقة، فإنها تعمي الإنسان عن الواقع، وتبرر القمع تحت شعار العدالة أو الهوية أو التقدم.
وفي باب تحت عنوان التجريب كتحرر، ترى أن التحرر، ليس لحظة ثورية، بل مسار مستمر من التفكير النقدي والتجريب. و “عليك أن تجرّب أن تفكر بطريقة مختلفة، أن تشك، أن تُعيد النظر، أن تخطئ وتصحح… لا أن تكرر.”
تؤمن بأن التعليم لا يبدأ من الكتب، بل من جرأة السؤال، وأن أكثر الناس تعلُّمًا هم أولئك الذين لم يتوقفوا عن اختبار أفكارهم، حتى لو اصطدموا بالمألوف.
وحذرت في الرسالة الأخيرة قائلة احذر من سجّانك الداخلي،
وفي نهاية الكتاب، لا تُقدّم ليسينغ وصفةً للنجاة، بل تُطلق نداءً:
“تعلم أن تنظر من الخارج إلى نفسك، إلى جماعتك، إلى أفكارك الراسخة… راقب، تساءل، لا تسلّم.”
إن سجوننا الكبرى لا تُبنى من حجارة، بل من قناعات زائفة نخاف مساءلتها.
فالتحرر ليس أن تخرج من سجن خارجي، بل أن تُدرك أن القفل الحقيقي في داخلك، والمفتاح في يدك وحدك.
معلومات عن الكتاب:
– *العنوان الأصلي:*Prisons We Choose to Live Inside*
– *المؤلفة:* دوريس ليسينغ
– *تاريخ النشر:* 1986
– *النوع:* محاضرات فلسفية/اجتماعية
– *اللغة الأصلية:* الإنجليزية
– *عدد الصفحات:* 80 صفحة
التعليقات:
رئيس التحرير
تسلم يابو هلال ومزيد من إبداعاتك
24 مايو، 2025 | 10:55 ص