مقالات

الشيخ على آدم واستتابة المحكومين بالإعدام

عادل سعد :

كنتُ مجنّدًا بالقوات المسلحة المصرية بإدارة الشؤون المعنوية بمجلة “المجاهد” الإسلامية. تطبع المجلة شهريًّا 30 ألف نسخة توزّع مجانًا على الجيوش والكتائب والوحدات العسكرية؛ وداخل أقسام المجلة ضبّاط قادة، وجنود،وصحفيون،وخمسة شيوخ ،أصحاب العمائم منتدبون من وزارة الأوقاف، ومعظمهم على درجة وكيل وزارة، ووظيفتهم الوعظ والإرشاد وإلقاء محاضرات دينية لحثّ الجنود على الجهاد ورفع معنوياتهم أثناء القتال، وكتابة مقالات دينية مُتخصصة لمجلة “المجاهد”.

الشيخ “علي آدم” واحدٌ من هؤلاء، لكنه يُطلق لحيةً خفيفةً ولا يلتزم كثيرًا بالزّيّ الأزهري، ويحضر بالقميص والبنطال.

كان من بين المُعمّمين الأكثر قدرةً على الكتابة وطرح الأفكارالدينية ومُعالجتها، وفي بعض الأحيان يطلب غرفةً خاليةً ليكتبَ ويتأمل الحيطان العارية ويُغلق على نفسه بالمفتاح.

قضيتُ في المكان ثمانية أشهر حرصت خلالها على التقرب من “علي آدم”، وساعدتني الظروفُ عندما لمحته يسقط من على المكتب وقفزتُ من النافذة لأسعفه بالقليل من الماء والسّكر.

لم أخبر أحدًا؛ وبالتدريج اعتاد أن أجالسَه ونتحدّث، ومن بين الكلام القليل عرفتُ أن من تكليفات مهامه الوظيفية بوزارة الأوقاف استتابة المحكومين بالإعدام

من الدرجة الأولى.

تردّد أيامها عقب حادث المنصة أن الضابط “خالد الإسلامبولي”، قاتل الرئيس السادات، ما زال حيًّا وهرب للخارج.

وكنتُ أهرتل مردّدًا بعض ما يُقال: “ليس بعيدًا أنَّ كل ما جرى تمثيلية متفق عليها، وفي طهران هناك شارع الآن باسم خالد الإسلامبولي”.

لكنّ الشيخ أسرَّ في صوتٍ جازمٍ: ” لا.. خالد مات”.

العسكريون الثلاثة، قتلة الرئيس السادات، أُعدموا رميًا بالرَّصاص حتى الموت، وتدلّى من حبال المشنقة الثلاثة الآخرون من المدنيين الذين شاركوا في تسديد الطلقات على المنصة.

حضر مراسم إعدام العسكريين: الحارس المُكلف بحماية الرئيس السادات للتشفّي، وكان غائبًا في إجازةٍ وقت الاغتيال وإطلاق النار.

عندما وصل الشيخ “علي آدم” ساحة ميدان ضرب النار بالجبل الأحمر نصحوه بالابتعاد عن القناص “حسين عباس”، الشاويش الصعيدي من المنيا وبطل الرماية لسبع سنواتٍ متتاليةٍ، قتل رأس الدولة برصاصةٍ في العنق قبل أن تتوقف السيارة ويبدأ الهجوم.

قالوا للشيخ “علي آدم”: تحدّث معه من بعيدٍ؛ لأنه حاول مرتين أن يخزق عيون مَن يتكلّم معهم.

وجاء الدور على “خالد الإسلامبولي”، وكان على حدّ وصف “علي آدم” هادئًا مطمئنًّا، ولما رأى الشيخ قادمًا بالزّي الأزهري فهم المطلوب، وعلى الفور سأل: “هل نحن على حقٍّ يا مولانا؟”.

كانت الدنيا مقلوبةً بعد أن أردى، ورفاقه، الرئيس الخائن عدو الثورة الإسلامية في إيران، وصاحب معاهدة السلام مع يهود إسرائيل.

قبل أن يتمكّن “علي آدم” من الإجابة برق داخل عينيْه لمعانُ نسور ونجوم وسيوف ذهبية، وكانت جنبات الساحة تعجّ بقيادات الشرطة العسكرية، والمخابرات، والحرس الجمهوري، ومباحث أمن الدولة، ووزارة الداخلية.

كل ما يتذكّر “علي آدم” الذي كان مدرَّبًا على تلك المواقف أنه ردَّد في خفوتٍ: “أنت بعد دقائق يا خالد ستقف أمام الحق، والله سبحانه وتعالى أعلم بالسرائر.”

“خالد” الحاصل على موافقةٍ شرعيةٍ بقتل السادات- من الشيخ “طه السماوي”، حارس الحق كما يُطلقون عليه، ورفيق شباب “شكري مصطفى” في زنزانة مُعتقل طرة- رفض أن يسدل عصابةً، ووقف مفتوح العينين أمام بنادق الإعدام وأطلقوا عشر رصاصات نحو قلبه من على مسافة خمسة أمتارٍ، ومضت ثوانٍ معدودةٍ، ومن بين سُحب الدخان فوجئوا بأن جسده ينتفضُ من جديدٍ ويده اليمنى تتحرّك نحو الأمام.

قفز ضابط الشرطة العسكرية المكلّف بقيادة فرقة الإعدام وأشهر مسدسه لإطلاق رصاصة على رأسه لولا أن يدًا أعلى أشارت إلى أن ينتظر، وبعد عشر ثوانٍ أخرى سقطت اليد، واستكان الجسد، وتوقفت رعشة الحياة.

بعد خروجي من خدمة الجيش حرصت على صداقة العالم الخلوق الذي أفادني كثيرًا بعلمه، وإيمانه، وأسلوبه في الحياة.

رحل الشيخ “علي آدم” عن عالمنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا واستراح. وكانت عيون هؤلاء الذين رآهم في لحظاتٍ فارقةٍ ما بين الموت والحياة لا تُفارقه. وأغرب هؤلاء- على حدّ وصفه “شكري مصطفى”، زعيم تنظيم التكفير والهجرة.

 

اظهر المزيد

نموذج التعليق


لا توجد تعليقات بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى